رمضاني

"أعلنت دار الإفتاء المصرية أن غدا/اليوم هو المتمم لشهر شعبان" جملة نسمعها من العام للعام تعنى أن رمضان صار قاب قوسين أو أدني لنعيش بهجته، لرمضان حالته الخاصة والمغايرة، محفورة هي أغنياته الشعبية الجميلة في دواخلي منذ حداثة المنبت، منقوشة بتفاصيلها في ذكرياتي (وحوي يا وحوي) ل "أحمد عبد القادر"، (رمضان جانا) ل "عبد المطلب"، (المسحراتي) ل "سيد مكاوي" يثيرون في القلب إحساس عارم بالأصالة، أشعر حين سماعها وكأنها أغنيات تنبعث من ماض سحيق عايشت بعضا من لحظاته.

لحظات الطفولة.. بحري.. الفانوس أبو لمبة (فالفوانيس بحجارة البطارية كانت حديثة الصنع في أوائل الثمانينيات).. رمضان حينها كان مواكبا للشتاء، والشتاء في بلدنا بارد وعاصف وممطر، كانت الشوارع غارقة في مياهها والبرودة محيطة. منزلي الأول (منزل العائلة) الذي عشت فيه حتى عامي الثامن عشر كان منزلا قديما للغاية بُني في أوائل القرن العشرين، سقفه مرتفع، نوافذه ضخمة، غرفة متعددة ومساحته شاسعة؛ يحكى لنا جدي أن أبيه استأجره بعد عودة المُهَجرٍّين إلى الإسكندرية بعد ضربها عام 1956م، كان مُلاك البيوت حينها يبخرونها ويرقون عتباتها كي يستأجرها الناس!. المنزل يطل على أهم أسواق بحري (سوق الميدان) وحين يعلم الناس أن الغد رمضان كانت الشوارع تمتلئ بالمارة ينتشرون لشراء سحور اليوم الأول فيتكتل الناس على بائعي (الكبده).. لدينا عادة لا أظن أحدً من غير سكان منطقة بحري يمارسها حيث لابد وأن يكون سحور أول أيام رمضان هو (الكبده) المقلية في الزيت، سألت العديد من سكان الإسكندرية (خارج بحري) فلا يعرف أحد عن هذه العادة شئ.. ثم يبدأ الباعة في تجهيز عجائن الكنافة والقطائف ومكونات السوبيا وعصير التمر الهندي والعرقسوس، الأطفال تهج للأرجاء بصحبة آبائهم، الشباب يبدءون في فرش الزينات الملونة بين البيوت، تشعر وكان لكل واحد دور يلعبه بمهارة. أحببت منذ هذا الوقت السير بالسوق والاستمتاع بالمشهد الحافل كل عام، لكن الأشياء ربما تفقد بريقها مع الوقت...

كم تترك المنمنمات أثرها علينا وتبقى رغم الوقت محتفظة بجمالها، للتراث مساحة في نفوسنا، تظل فيه الأشياء الصغيرة كالأغاني، الأكلات، الملبوسات، الروائح، الزينة مكون رئيسي للفلكلور المصري على امتدادات عصره، يصبح من غير الممكن فهم المصريين دونه. ربما مع مرور الزمن، مع تصاعد حالة الغربة والاغتراب، زيادة القهر الإنساني في مواجهة تحكمات المادة وسيطرة المال، في خضم صراع الإنسان ضد إنسانيته تسقط المنمنمات، تتآكل من ذهنه معاني التأصيل والعذوبة ومفردات الجمال ويجد أنه نسي وسط الضجيج وتر من أوتار الروح والحس منشغل عنها بفرديته. قطع ارتباطه بالعميق والراسخ لذلك فالجذور تربط الإنسان بطفولته، والماضي يعني لدينا أمورً أكثر نقاء تضفي فرحة وبهجة لا تضاهيها سواها.